الحُبّ، لفظةٌ عَذْبةٌ رقيقةٌ دافئة، فلا أرْوعَ ولا أجملَ. آه؛ كمْ أتمنّى أنْ تسكُنَ في قلوبِ النّاسِ فتغمرَهم بالسّعادة، ويصبحَ الكونُ أكثَرَ جمالاً، نرى السّماءَ أوسعَ، والشّمسَ أسْطَعَ، والأرضَ تتماوجُ بالخُضرةِ والنّضرةِ. الحُبُّ يجعلُ النّفسَ تُحلِّقُ في آفاقٍ مخمليّةٍ لازَوَرْدِيّة تحرّرُها من عبوديّةِ أهلِ الأرْض، فتَنْعتِقُ وتَنطلِقُ
ويغمُرُنا بكُلِّ ألوانِ الطّيفِ السّماويّ.
أَجَلْ؛ لقدْ تحدّثَ عن ( الحُبّ ) آبائي وجدودي مِنْ قبْلُ، وعثَرْتُ على آراءِ مَنْ لم أُدْرِكْهم في المعاجمِ وبطونِ الكُتُبِ، وقد ساقوا لنا القصصَ المُثيرةَ الغريبةَ، وصالوا وجالوا وأطالوا،ولكنْ عُدتُ مِنْ كلِّ ما أوردوهُ عنهُ بخُفَّيْ حُنَيْنَ.
نحنُ في هذا العصْرِ كغيرِه مِنَ العصورِ السّابقةِ، وسيكونُ كغيرِهِ أيضًا من العصورِ اللاحقة، لا فرقَ. فالحياةُ هي الحياة، والبشَرُ هُمُ البَشرُ بطباعِهم وعاداتِهم ونفوسِهم وسلوكِهم، وما عنْدَهم مِن نَزَقٍ وطَيْشٍ، وسرورٍ وحُبورٍ، فيهمُ الرَّفيعُ والوَضيع، والأميرُ والحقير، والصّالحُ والطّالحُ، والطّاهرُ والعاهر، والكريمُ واللّئيمُ، نفوسُهم شتّى تقودُها الرَّغائبُ والمَصالِحُ والنَّزَواتُ.قالَ المتنبّي:
صَحِبَ النّاسُ قَبْلَنا ذا الزّمان ــ ــ وعَناهم مِنْ أمرِهِ ما عَنانـا
ومُرادُ النُّفوسِ أصْغرُ مِـــنْ أنْ ــ ــ نتعادى فيها وأنْ نتفانـى
غَيْرَ أنَّ الفتى يُلاقي المَنايـــا ــ ــ كالِحاتٍ ولا يُلاقي الهَوانا
وقدْ وجَدتُ لِلْحُبِّ مُسَمَّياتٍ وأنواعًا كثيرةً منها: الوَجْدُ والجوى والْهيامُ والدّنَفُ والعِشقُ والولَهُ والودُّ والغَرامُ .... ولعلَّ الجنونَ أعلى مراحِلِه. وللحُبِّ اتِّجاهاتٌ كثيرةٌ، منه ما يكونُ للنَّفسِ وهو ما نُطْلِقُ عليه: الأنانيّة، ومنه ما يكونُ مُوَجَّهًا للناسِ على اختلافِ عَلاقاتِهم وَصِلاتِهم: للحبيبِ أو الأولادِ أو الأمّ أوِ الأبِ أو الصّديقِ أوِ القريبِ أوِ الشّريكِ في التِّجارة....
هذا هو الحُبُّ الّذي شَغَلَ مَنْ قَبْلَنا ويشغلُنا الآنَ، وسيشْغلُ اللاحِقِين، بِهِ نفدي بنفوسِنا مَنْ نُحِبُّ، ونموتُ مِنْ أجْلِهم ونحنُ مَسْرورون، وبهِ نقتُلُ مَنْ نكْرَهُ أيْضًا لأنّهُ تَعارَضَ معَ رَغباتِنا وأهوائنا ومصالِحِنا. أرجو أنْ تلاحظوا معي ما قالَهُ مالِئُ الدُّنيا وشاغِلُ النّاسِ ( المُتَنبّي ) :
أرى كلَّنا يَبغي الحيـــــاةَ لنفسِهِ ــ ــ حريصًا عليها مُسْتَهامًا بها صَبّـــا
فحُبُّ الجَبانِ النّفسَ أوْرَدَهُ البَقـا ــ ــ وحُبُّ الشُّجاعِ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ الحَرْبا
ويختلِفُ الضِّدّانِ؛ والفِعْـلُ واحِدٌ ــ ــ إلى أنْ تَرى إحْسانَ هذا لِذا ذَنْبـــا
وعليهِ فإنَّ المقاييسَ تختلِفُ حسْبَ الأهواءِ والمَفاهيمِ. فالحُبُّ على هذا يكونُ بدافعِ المصالحِ:
إنَّ ابنَ آدَمَ لا يُعطيكَ نعجتَــــهُ ــ ــ إلاّ لِيَأْخُذَ منْكَ الثَّورَ والجَمَـلا
لو يَعلَمُ الكَبْشُ أنَّ القائمِيْنَ على ــ ــ تَسْمينِهِ يُضْمِرونَ الشَّرَّ ما أكَلا
كما وأذَكّرُكم بقصيدة (الوردة السّجينة) للشّاعرِ إيليا أبي ماضي.وردةٌ تعيشُ في الحقلِ القريبِ بينَ أترابِها ولِداتِها،قطفَها وَلُوعٌ بالورودِ ووضعَها في أجملِ حُجْرةٍ منْ قصرِه،يسقيها فتزدادُ ذبولاً واصْفِرارًا، فرثى الشّاعرُ لحالِها وما آلَتْ إليْهِ منْ سَقامٍ، ولكنّهُ أعلمَها أنَّ خَطبًا جسيمًا سينتابُها، سَألَتْهُ: وما أكثرُ منْ هذهِ البَلْوى؟ فأفادَها بالحقيقةِ المُرّةِ:
أيا زهرةَ الوادي الحزينةَ إنّني ــ ــ حزينٌ لِما صِرْتِ إليهِ، كئيبُ
وأعظمُ حُزني أنّ خَطْبَكِ بعدَهُ ــ ــ مصائبُ شَتّى لمْ تَقَعْ وخطوبُ
سيَطْرَحُكِ الإنسانُ خارجَ بيتِهِ ــ ــ إذا لَمْ يَكُنْ فيكِ العَشِيّةَ طِيْبُ
هذا هو حالُ الحبّ، كانَ عَبَقٌ بالوردةِ فأحَبّها، ولمّا ذبلتْ وماتتْ، ألقاها في القمامة، أي لم تَعُدْ فيها فائدةٌ ولا مَنْفعةٌ. وعليه نقول: كانت المنفعةُ فكانَ الحُبّ، ولمّا زالتْ زالَ معها.
كما وأرجو أنْ تَمُرّوا معي على هذهِ القصيدةِ::
مَرَّ القطيعُ بأرْضٍ طابَ مَنْهَلُهـــا ــ ــ وعُشْبُهــا، فاسْتقى مِنْ مائها ورَعــى
وصـاحَ راعِيْهِ: هيّا ياقطيعُ بنـــا ــ ــ نُفْلِتْ مِنَ الذِّئبِ، إنَّ الذِّئبَ قد طلعا
قالَ القطيعُ لهُ: ما الفرْقُ بينَكما؟ــ ــ كلاكُمــا يبْتغي مِــنْ لَحْمِــنا شِبَعـــا
دَعْنا لهُ، وَانْجُ إنْ أحْببْتَ مُنْفرِدًاــ ــ فَلسْتَ أكثـــرَ زُهــدًا منــه أو وَرَعــا
نِعْمَ الفِرارُ الّذي أقْبَلْـــتَ تَنشُدُهُ ــ ــ لـو كـانَ يُنْقِـذُنـا منـهُ ومِنْــكَ معـــا
وهنا أسْألُ: ما هذا الحُبُّ الّذي جعلَ الرّاعي عَطوفًا مُشفِقًا على القطيعِ؟ وَلِمَ يُقَدِّمُ الرّاعي للقطيعِ الماءَ والغذاء، ويجرفُ مُخَلَّفاتِهِ وأوساخَه؟ نعمْ لا فَرْقَ بينَ الرّاعي والذِّئب، فكلٌّ منهما يبتغي تحقيقَ مَصالحِهِ ومطامعِه.
تعالَوا معي إلى غابرِ الزّمانِ، في عهدِ سيّدِنا أبي البشَرِ ( آدَمَ عليه السّلام )، مرورًا بولدَيْهِ ( قابيلَ وهابيلَ ) إنّهما شقيقانِ، وهل يوجَدُ أعَزُّ منَ الأخِ؟ إنّه سَنَدٌ وسِلاحٌ:
أخاكَ أخاكَ، إنَّ مَنْ لا أخًا لهُ ــ ــ كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ
وقيلَ: إنَّ أعرابيًّا اغتربَ عن أهلِهِ عشْرَ سنواتٍ، وانقطعتْ أخبارُهم عنه، وعندَ العودةِ سَأَلَ أولادَه: أينَ أبي؟ قالوا: مات، قال: ملَكْتُ أمري، قال: وأينَ أمّي ؟ قالوا: ماتتْ، قال: ماتَ هَمّي، قال: وأين زوجتي؟ قالوا: ماتتْ، قال: جَدَّدتُ فِراشي، قال: وأينَ أختي؟ قالوا: ماتتْ، قال: سترْتُ عِرْضي، قال: وأين أخي؟ قالوا: ماتَ، قال: انكسَرَ ظهري. ( ألاحَظتُمْ قيمةَ الأخِ؟ )
وعِنْدَ تعارُضِ المَصالحِ قَتَلَ قابيلُ هابيلَ، أهذا هو الحُبُّ؟ ألَمْ يكونا قادِرَيْنِ بهذا البلسَمِ السِّحْريِّ ( الحُبّ ) أن يكونا مُتسامِحَيْن، إنّهُ حُبٌّ للنّفسِ حتّى تبقى؛ ويفنى الآخَرونَ. هذا في الوقتِ الّذي لم تكُنْ فيهِ الأرْضُ قدِ ارتفعَتْ أسعارُها ولا تَاَجَّجَتْ نارُها. فما بالُكُم في هذه الأيّامِ ونحنُ على ما فينا مِنْ بُغْضٍ وخِصام؟
سُئِلَ أعرابيٌّ: ماعَلاقتُكَ بفلان؟ أتحبُّهُ أمْ تكرهُهُ؟ قال: أحبُّه، قيلَ له: ولماذا؟ قالَ الأعرابيُّ: إنّهُ ليسَ أخي ولا قريبي ولا جاري. إذًا هؤلاءِ الّذينَ يتعارَضونَ معَ المصالحِ، فيصيرُ الأخُ عَدُوًّا، والقريبُ غريبًا، والْجارُ جائِرًا. عندَها تثورُ ثائرتُنا ويكونُ النَّصْرُ والغَلَبةُ للأقوى، وتتوالدُ المشاكلُ، ويَتَنَحّى الحُبُّ جانبًا ليُفَرِّخَ الحِقدَ والحَسَدَ والكراهيةَ في نفوسِنا، وأسْألُ: أهؤلاءِ أولادُ الحُبِّ؟ نعم، وهؤلاءِ لهم أولادٌ أيضًا، كالغدرِ والضّربِ والقتْلِ والمستشفياتِ والقبورِ والسُّجونِ...
إذا أردتم أنْ تتأكّدوا منْ صِحّةِ ما أزعُم، فاذْهبوا إلى المحاكمِ الّتي تعُجُّ بالظّالِمينَ والمظلومين، أكثَرُهم أقاربُ، فالوالدُ ضِدُّ ابنِه، والأخُ ضِدُّ أخيه، والزّوجةُ ضِدُّ زوجِها، والْجارُ ضِدُّ جارِه وهَلُمَّجرّا... تُرى أينَ ما كانَ يجمعُهم مِنْ أواصِرَ ووشائجَ؟
أينَ توارى ذلكَ الحُبُّ؟ كانَ الزَّوجُ والزَّوجةُ عاشِقَيْن فيما مضى، وتحوّلا بفعلِ المصالحِ إلى عَدُوَّيْنِ لَدودَيْن، لِمَ لَمْ يسْتمرَّ الحُبُّ بينَهما؟ بسببِ المصْلحة. فالحُبُّ مَصلحةٌ ومنفعةٌ وأنانيّةٌ، يبقى ببقائِها ويزولُ بزوالِها .
ما ألطَفَنا عندَما نحِبُّ!! وما أقسانا عندما نكرهُ!! بلْ قُلْ: ما ألطفَنا عندما تتحقّقُ مصالحُنا معَ شخصٍ!! وما أقسانا عندَما يسلبُنا هذا الشّخصُ ذاتُهُ تلكَ المصالحَ، وبإجراءِ عمليّةِ تبادُلٍ كما في الرِّياضيّاتِ نستنتِجُ أنَّ الحُبَّ هو الكُرْهُ، وأنَّ كليهما مصلحةٌ. نحبُّ مَنْ يُلبّي رغَباتِنا، ونكرهُ مَنْ يتعارَضُ معَ هذهِ الرَّغَباتِ.
وسبقَ أنْ قُلتُ: إنَّ أعلى درجاتِ الحُبِّ الجنونُ، وعندها يصبحُ المُحِبُّ أعمى فلا يرى إلاّ الجَمالَ في (مَنْ) يُحبُّ:
وعينُ الرِّضا عنْ كلِّ عيبٍ كليلةٌ ــ ــ ولكنَّ عينَ السُّخْطِ تُبْدي المساويا
فإنْ تَدْنُ مِنّي تَدْنُ مِنْكَ مودّتـي ــ ــ وإنْ تَنْأَ عَنّي تَلْقَني عَنْــكَ نائيــا
ولا يرى إلاّ الجَمالَ في (ما) يُحِبُّ أيضًا:
بـــلادٌ ألِفْناهــا على كُـــلِّ حالــةٍ ــ ــ وقدْ يُؤْلَفُ الشّيْءُ الّذي ليسَ بالحَسَنْ
وتُسْتعذَبُ الأرْضُ الّتي لا هَوىً بها ــ ــ ولا مـــاؤُها عَـــذْبٌ، ولكنّها وَطَـــنْ
هذا هو الحُبُّ، إنّهُ اسْتيلاءُ العاطفةِ على مقاليدِ الحُكم في مملكةِ الجَسَدِ ، وخضوعُ العقْلِ إلى سُلطانِها، وانصياعُهُ إلى أحكامِها ودساتيرِها. إنّ هذا هو الجنونُ. أوَتُريدونَ أنْ تكونوا مجانينَ بالحُبِّ؟ معاذَ اللّهِ!!
أنا لا أريدُ أنْ أُشَوِّهَ صورةَ الحُبِّ في أذهانِ النّاشِئينَ، ولا أريدُ أنْ أعرِّضَ نفسي لقنابلِ ألسنتِهم وجحيمِ انتقاداتِكم، أتمنّى أنْ يعيشوا سُعداءَ مُسْتبْشِرِين بالمسْتقبَلِ الواعد، حتّى يكونوا قادرِينَ على بناءِ اللَّبِنةِ الأولى ( الأسْرة ) على أساسٍ مَتينٍ من التّفاهُمِ وتبادُلِ المنافعِ مِنْ غيرِ ضَرَرٍ أو ضِرارٍ، ناصِحًا لهُمْ: أنْ يكونوا مُعتدِلِيْنَ في عَلاقاتِهم الأُسَرِيّةِ، مُوَفِّقِيْنَ بينَ العقلِ والعاطفةِ، تكونُ فيهِ القيادةُ الفعليّةُ للعقْلِ معَ بهاراتٍ قليلةٍ منَ العاطفة، حتّى يُصبحَ المذاقُ مُسْتساغًا وتكونَ الحياةُ هَنيّةً رَضِيّة.
هذا رأيي بالحُبِّ، إنّهُ المصلحةُ ، فليتني أكونُ قادِرًا على أنْ أُوَفِّقَ بينَ مصلحتي ومصالحِ الآخَرين، أي أنْ أحبَّ النّاسَ ويحِبّوني، وبِذا أكونُ سعيدًا.
إنَّ كلَّ مَنْ يَدَّعي أنّهُ يُحبُّ مِنْ أجْلِ الحُبِّ، أقولُ لهُ: اِصْحُ منْ غَفْوتِكَ، هذه سحابةُ صيفٍ عن قريبٍ ستقشعُ.
الحبُّ ملاكٌ سحريٌ جميلٌ أتمنّى أنْ يسودَ بينَ بني البشَرِ، ورحِمَ اللّهُ نزارًا:
منذُ أحببْتُكِ الشُّموسُ اسْتدارتْ ــ ــ والسّماواتُ صِرْنَ أنقى وأرحَبْ
يَسْكُنُ الشِّعْرُ في حدائقِ عينَيْكِ ــ ــ فلولا عينـــاكِ لا شِعْرَ يُكتَـــبْ
لكنْ ثِقوا تمامًا أنّني وجدتُ هذا الكائنَ الخُرافيّ (الحُبّ) مكتوبًا في السُّطور منزوعًا منَ الصّدورِ. ولا يُمكنُ أنْ نحبَّ إلاّ إذا اسْتطعنا أنْ ننتصرَ على أمراضِنا المزمنةِ المستعصية من حسدٍ وغيرةٍ وأنانيةٍ وطمعٍ...وهذا لايكونُ إلاّ للملائكة. إنّنا بشَرٌ ننفعلُ لأتْفهِ الأسباب وسَرعانَ ما يطيرُ هَزارُ الحُبِّ من أعشاشِ قلوبِنا فتمسي يبابًا خرابا. اللّهمَّ إنّنا لا نسْألُكَ رَدَّ القضاءِ، ولكنْ نسْألُكَ اللُّطْفَ فيه.
وشكرا .